فيديو



الجمعة، 2 مايو 2014

العقيدة الإسلامية - الدرس (1-63) : القوة الإدراكية وهي بحاجة لعالم داخلي وخارجي بينهما

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ:14-09-1986

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين , اللهم لا علم لنا إلا ماعلمتنا انك أنت العليم الحكيم , اللهم علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما , وأرنا الحق حقا , وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلا , وارزقنا اجتنابه. 

أصول العقيدة

- من أصول العقيدة: 

  العقيدة تعد من أصول الإسلام والفقه من الـفروع, فإذا صحت العقيدة صح العمل, وإذا فسدت العقيدة فسد العمل، فإذا اعتقدت أن الله تعالى قبض قبضة، وقال: هذه إلى الجنة ولا أبالي وهذه إلى النار ولا أبالي والقضية انتهت هذه العقيدة تثبط همة المؤمن.
فـالبحث في العقيدة مهم جداً بل هو خطير جداً، وهذا لا يعني أنني لم أبحث موضوعات العقيدة خلال مدة طويلة بـل بحثنـاها مئـات المرات، ولكن بمواضيع متفرقة في: الخطب، والتفسير، والحديث، والسيرة وفي الدروس، أما بحثها على شكل موضوعات متكاملة ومتتابعة فسنبدأ الآن أول مرة. 

  النفس: 

 جاء في بعض الأحاديث الشريفة أنه " من عرف نفسه عرف ربه "، فلنبدأ بالحديث عن النفس, التي هي بين جوانحنا والتي في الصدور، قال الله تعالى: 

﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
(سورة الملك الآية: 13)
هذه النفس التي هي ذات الإنسان, نتعرف بها أن الإنسان مخلوق من نوع خاص، فالكون كـلـه مــا فـي السموات ومـا في الأرض مسخرٌ له, فإذا كان الكون كله مسـخراً له فأيهمـا أكـرم عنـد الله، الكـون بأكملـه أم هذا الإنسان الذي سّـخر لـه الكون بأكملـه ؟ فـالعقل يقول: المسخرُ له أكرم من الشـيء المسـخر، فقال الله تعالى عن الإنسان: 

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾
(سورة الإسراء الآية: 70)
وأيضاً: 

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
(سورة الأحزاب الآية: 72)

هذا الإنسان المكرم زوده الله بوسائل التكريم ومنها: 

-طرق تكريم الله للإنسان:

 1- القوة الإدراكية:

 للإنـسان قوة إدراكية، فالحائط، والطاولة، والأحجار، والأشـجار هـذه الأشياء لا تدرك، فالإنسان مميز، ومفضل، ومكرم بهذه القوة الإدراكية.
مثلاً: مجتمـع الـقرود منذ وجودهم على الأرض وحتى الآن، هل طرأ على حياتهم تطور؟ فهل سكنوا في البيوت؟ وهل اخترعـوا أجـهزة ؟ وهل نظموا مجتمعهم ؟ فالقرد هو القرد، لم يتغير ولم يتبدل، فالفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان هو القوة الإدراكية. 

 2- الإدراك: 

 فالإنسان إذا عـطل إدراكـه عطـل إنسـانيته، أي إذا عـطل إدراكـه جعل نفسـه فـي صف الحيوان، وهذا قول لا يحتمل المناقشة لشدة وضوحه ولشدة تشعّب الموضوع، فلْنَبْقَ في القـوة الإدراكـية التـي خصـهـا الله للإنـسان والتـي يتميز بها عن سائر المخلوقات ولاسيمـا الحيوان، و لها مشكلة، أنها عالة على العالم الخارجي والعالم الداخلي، وهي مـن دون عالـم خـارجـي وعالم داخلي لا قيمة لها، حيث تتعطل وظيفتها. 

 3- العالم الخارجي: 

 الله تعالى جعـل لنـا نوافـذ تطل عليه، فالبصر نافذة، والشم، والسمع، والذوق، والإحسـاس بالحرارة والبرودة، وكذلك الضغط وجميع الأعصاب والحواس هي نوافـذ القوة الإدراكية على العالم الخارجي، ولو تخيلنا أن إنساناً أوتي من الذكاء ما لم يؤت أحـد من العـالمين وكان كفيف البصر، فهل يستطيع أن يعـرف الـلون الأحمر، وما الفرق بينه وبين اللون الأخضر ؟ نرى أن كـلمة أحمـر, وأخضـر, وأزرق, وبنفسـجي، وأبيـض وغيـره من هذه الكلمات لا معنى لـها إطلاقاً عندَ هذا الكفيف، فهذه القوة الإدراكيـة تستعين بهذه النوافذ، لذلك ربنا عز وجل قال: 

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُون﴾
(سورة البقرة الآية: 171)

إن القوة الإدراكية تحتاج إلى سمع وبصر وإلى نطق، فأي كائن أصم، وأبكم، وأعمى فهو لا يعقل، وهنا نجد أن هذه الآية تشير إلى ذلك، قال تعالى: 

﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾
(سورة الأنفال الآية: 22)

فهذا الذي خُلق أصـم اسـألـه ؟ هل صـوت البلبل أعذب أم صوت الغراب ؟ فيقول لك: لا أعلم، وما نوعه ؟ فهو لا يدري، لأنه لم يسمع صوت البلبل ولا الغراب، فمهما كان متميزاً بالذكاء، والنـوافذ المطلة على العالم الخارجي مغلقة فـالإدراك منعـدم.

- محدودية الحواس بقدر الله:

هذه الحواس خلقها الله سبحانه وتعالى بقدَر، قال الله تعالى: 
 
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
(سورة القمر الآية: 49)

فإنـك عنـدمـا تريد شُـرب المـاء تـراه صـافياً نقيـاً، فلو وضعت منه قطرة تحت المجهر لرأيت آلافاً، بل مئات الألوف من الجراثيم والبكتريات والـعصيات، فماذا تستنتج ؟ إن هذه القوة الإبصارية محدودة، فإنك تستطيع أن ترى الأشياء على بُعد مئة متر أو مئتين، ثم بعد ذلك لا ترى شيئاً، كذلك طبيب العيون يضع لك لوحاً على بعد خمسة أمتار أو أكثر، فترى فتحـات الـدوائـر الكبيرة، حتى تصل إلى الـحلقات الصغيرة فتقول له: لا أعـرف، ويضـع لـك عـلامـة " 8/10 - 5/10 - 3/ 10"، حيث إنك لا ترى أصغر من ذلك، إذاً القوة الإبصارية لـها حدود قال تعالى: 

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
( سورة القمر الآية: 49)

وحدودها من تقدير عزيز، عليم، خبير، بصير، حكيم، ولو زادت قوة الإبصار أكثر من ذلك لما رأينا في الأرض جمالاً، وبعـض الأمـاكـن في أنعـم جـلد بشـري تـرى جبـالاً ووديـاناً ونتوءات، وعندما تم تـكبير أنعـم جـلـد بشـري تحت مجهر يكبر 300000 مرة كان المنظر لا يُحتمل، فلو أن هذه العين كـانـت قـوة إبصـارهـا أكبـر ممـا هـي عليه لما كان في الأرض جمال، فقوة الإبصار المحدودة تعتبر نعمة من نِعَم الله عز وجل. 

- الاستشهاد بأمثلة للتوضيح: 

فلو كان الـسمعُ غيرَ محـدود لسـمعت كـل الإذاعـات دون أن تـدخل إرادتك في أن تسمع أو لا تسمع, لذلك فإن الله عـز وجـل مـن حكمته جعلنا لا نستطيع أن نسمع تلك الأمواج الصوتية، فلنفرض لـو كان هنـاك سـوق مليء بالضجيج، أو كان كل شيء على وجه الأرض يسمعه الإنسان لكانت حيـاته مـستحيلة، فتصـور أنـك تسمع أصوات أمواج البحر، وكل محرك يعمل، وكل انفجار، وكل صـوت فـي الـكرة الأرضيـة، مـن شمـالها إلى جنـوبها، ومن شـرقـها إلى غـربها، مهما دق ذلك الصوت ‍! ولو تفكرنا في ذلك لعرفنا حكمة الله، ولعرفنا نعمته في جعل السمع لدينا محدوداً، ندرك معنى الآية الكريمة: 


﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

( سورة القمر الآية: 49)

فالموجة الصوتية عندما تضعف وتتلاشى، هذه نعمة كبيرة لا تقدر بثمن, الدليل: هناك موجة لا تتلاشى, فهم بعثـوا مـركبة إلـى المشـتري تسـير بسرعة 40000كم في الساعة، وهي أسرع مركبة صنعها الإنسـان، وبقيـت فـي مسـيرهـا إلـى المشتري ست سنوات، وهو أحد كواكب المجموعة الشمسية، ومـع ذلـك مِن هناك بثت صوراً إلـى الأرض، وهذه الصور بثت على شكل أمواج، وهذه الأمواج بقيت على حـالتـها، وسـعة المـوجـة لم تقل، فإنّ الله قادر على خلق موجات تحافظ على سعتها، ولـو أن المـوجـات الصـوتية التـي في الأرض بقيت محافظة على سعتها لأصبحت الحياة على وجه الأرض مستحيلة. 

َ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾

( سورة القمر الآية: 49)

وهـكذا الســمع، والبصـر، والشـم، فالشـم محـدود أيضـاً، فـلو أن الإنسـان يشـم الروائـح الكريـهة لمســـافـات بعيـدة كرائحـة دابـة ميتة فـي بلد آخر لأصبحت الحياة في بلدك مستحيلة، ولكن حكمة رب العالمين إذا كانت رائحة كريهة على بعد 200 م فإنها تنتهي وتتلاشى، فـراكب السـيارة قد يشم رائحة كريهة في طريقه وبعد لحظات يبتعد عنها وتنتهي الرائحة، إذاً هنـاك محـدودية للحواس.

- إنكار الأشياء غير المحسوسة أمر غير علمي: 

فهل ننكر الأشياء الغير محسوسة ؟ فمثلاً هناك أجهزة تطرد البعوض والذباب بواسطة أصوات يصدرها الجهـاز تزعج البعوض والذباب ولكن لا يسمعها الإنسان، وتكون هذه الأصوات دون عتبة السمع, كمـا أن هنــاك أجهـزة حـديثـة لـلقوارض تصـدر أصـواتاً لا يسمعها الإنسان ولكن القوارض تســمعها، فـإذا سـمعتْه هـربتْ، ويسـتخـدم فـي المستودعات، فهل يجـوز للعـاقل أن ينكـرهـا لعدم استماعه لها ؟ فتقول: إذاً إن الحواس محدودة لدى الإنسان، وهـذه النقطـة هي التـي يجـب أن نصـل إليـها، وقد قال عـلماء التوحيد: " عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ". 

 1- الدليل:

هنـاك أجهـزة تـلتقط الصور التي لا نراها، فهل تستطيع أن تنكر ذلك ؟ فإذا قال أحد: إني لا أرى الله، فأيـن هو ؟ فـتقول لـه: إنَّ هذا هو الغباء والجهل بعينه, لأن عـدم الوجـدان لا يعني عـدم الـوجود، ولأن حواسنا محدودة لحكمة بالغة، ونستنبط من ذلك أيضاً أن الشيء الذي لا نراه يمكن أن يكون موجوداً، ويمكن أن يكون وجوده أخطر من وجودك أنت لكنك لا تراه, ومن ينكـر أن هناك قوة جذب بيـن الأرض والشمس حسب قانون الجاذبية، فهناك تجاذب بين الكتل المادية بحسب حجم الكتلة، فكلما كبرت الكتلة زاد الجذب، وكلما صغرت قلَّ الجذب, وهذه حقيقة مسلَّم بها.
مثال: معلم أراد أن يـبث الإلحـاد بينَ طلابه فقال: نحن لم نشاهد الخالق، فإذاً هو غير موجود، فتكلم طفل وقال لهذا الأستاذ: نحن جميعاً لا نرى عقلك الذي تفكر به، فإذاً أنت لا عقل لك، إن قياساً على هذه القاعدة الواهية أن العقل لا يُرى, ولكن نرى آثاره، وهذا شـيء آخـر فـي الـقوة الإدراكية. 

 2- العالم الداخلي: 

 إنك تكوِّن بعض الحقائق من العالم الداخلي، ذلك لأن النفس تغضب، وتـخاف، وترجو، وتفرح، وتحزن، وتقلق، وتستكبر، هذه المشاعر يدركها الإنسان عن طريق العالم الداخلي وليـس عـن طريق العالم الخارجي، إذاً هناك نوافذ داخلية ونوافذ خارجية، كالبيوت مثلاً فقـد يـكون لـها نـوافـذ تطـل عـلـى ساحة البيت و نوافذ تطل على الشارع، كذلك الإنسان له نوافذ تطل على العالم الخارجي منها يكوِّن مدركاته، وله نوافذ تطل على العالم الداخلي ومنها يكوّن أحاسيسه. 

 3- الخيال: 

 ما هو الخيال ؟ هو القدرة علـى التصور، يتصور الإنسان أن له بيتاً يطل على حديقة وعلى جنبيها أشجار سرو, وأشجار مثمرة متنوعة، وفـي الـحقيقـة لا يـوجد عنده شيء من ذلك، فما هذا الخيال ؟ فـلو قلنـا لإنسـان: تخيـل أن لك بيتاً، فإنـه يتخيل مسكناً له سقف، وجدران، وأرض، فهل يسـتطيـع أن يتخيل غـير ذلـك ؟ وكـذلـك لـو قلنـا لـه: تصور حورية نصفها امرأة ونصفها سـمكة، فـإنـه يسـتطيع تصور ذلـك، لأنه يعرف المرأة ويعرف السمكة فيتصور ذلك، فالخيال البشري لا يستطيع أن يتصوَّر شيئاً من لا شيء، إنما يستطيـع أن يـتصوّر شيئاً من شيء، من الممكن أن نتخيل شجرة لها أوراق، وتحمل بدلَ الثمـار كـؤوساً من شراب التفاح مثلاً، فالكؤوس موجودة وشراب التفاح مـوجود, الـخيـال فـي الـحقيقـة مـرتبط بالواقع، فأحياناً يتصورون إنسانَ المريخ فلا يزيدون على أن له رأساً، وجـذعاً، ويديْن، ورِجلين، إلا أنـه قـد يغيـر مـوضع العينين أو يكبر الرأس قليلاً، أو قد يغير في شكل الأيدي والأرجل، فهل يستطيـع الإنـسان أن يتصور رجـلَ المـريخ من دون رأس ورجليـن ؟. 

- محدودية الخيال ليس دليلاً علمياً على رؤية الغيبيات:

إذا كنت لا تستطيع أن توجد صورة خيالية من لا شيء، فكيف بإمكان الإنسان أن يتخيل الجنة وهو لم يرها ؟ فالخوض في الغيبيات ليس من العقل، ففي الحديث القدسي عن الله عز وجل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:  
((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) ))
( أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح )
فـالخيال يـجب ألاّ يجول في العالم الآخر، وذلك لأن الخيال لا يأتي إلا لشيء من شيء، أما من الجنة فلا نرى منها شيئاً، وقد قال العلماء: " نحن نكتفي بعالم الغيب بالخبر الصادق الذي ورد في كتاب الله ", لا أقل من ذلك ولا أكثر، فإذا كـنت عـاجـزاً عـن تخيـل الجنة فهل تستطيع أن تتخيل ذات الله عز وجل ؟ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تفكروا في المخلوقات ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا))

 4- العقل: 

 عقلك مـربـوط بـحواسـك وخيـالـك مرتبط بالواقع ولن تستطيع التجاوز، وهذا الكلام يراد منه أن العقل أو الفكر البشري عندما يعجز عن الوصول إلى شيء فهذا لا يعني أن الشيء غير موجود، ولكن العقل الذي وهبنا الله إياه له طاقة محدودة، لحكمة بالغة أرادها الله عز وجل، مثلاً: ميزان يزن 30 كغ تضع عليه سـيارة، ينكسر ويتحطم، فهل نقول: إن هذا الميزان ليس جيداً ؟ لا بل هو ميزان جيد ولكن مخَصَّص للأوزان التـي لا تـتجاوز 30 كغ وليس لسيارة، مِن هذا المثـل يتضـح لـنا أن الإنسـان عندمـا يكلف عقله فوق طاقته، ثم يخفق فالخطأ ليس في عقله بل في سوء اسـتخدام العقل، لأن العقل مربوط بالواقع، والواقع فيه زمان ومكان، مثلاً يقال: إن هناك جريمة وقعت، فنقول مباشرة: متى وأين ؟ فالعقل البشري ليس عنده إمكانية أن يتصور حدثاً إلا ولـه زمـان ومكـان, ولـكـن الخـالـق ليـس كمثلـه شيء ولا يسأل عنه أين هو ؟ لأنه خالق المكان ولا يسـأل عنه: متـى كـان، لأنه خـالق الـزمان، فكلمة (متى) و(أين) في حق الله مستحيلة، لأنه خالق الـزمان والـمكان، فعدد السـنين هـذه مـن اختصـاصنـا نحن البشر، أما بالنسبة لله فالزمان صفر، لا يقيده زمان ولا مكان. 

- محدودية العقل: 

فالكون غير محدود, ولكن العقل لابد من أن يـكون محدوداً فأبعد مجرة توصلوا لها تبعد 18000 مليون ســنة ضوئية, وقد يكـون هنـاك مـجرات أخـرى وبالنهايـة فالكـون غير محـدود, ولكن العقل كيف يستطيع أن يدرك اللامحدود وهو الله عز وجل ؟ لذلك قال: 

﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
(سورة البقرة الآية: 255)

يقول الإمام الشافعي: ((إن للعقل حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه))، والإمام الغزالي يقول: ((لا تستبعد أيها المتكلف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه مالا يظهر في العقل)), لـذلك فالـكرامـات مـوجـودة، ولـكن الـعقل بصددها محدود الزمان والمكان، فلا يمكن للعقل إدراكه ولكنه موجود، مثلاً قال الله تعالى في كتابه العزيز: 


﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾
( سورة النمل الآية: 40)

أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، هـذا عـن عـرش بلقيس فكيف يتصور العقل ذلك ؟ تصور أنك تريد أن تنقله، فكم تستغرق من الوقت والجهد ومقدار الإمكانيات اللازمة لذلك ؟ فالإنسان العاقل يعقل الحقائق التي ذكرناها سابقاً: " عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود"، إذاً إن الفكـر البشـري محدود بالحواس، وخيـاله يمده من الواقع والواقع محـدود، فـأنـَّى لـهذا الفكـر البشـري المـحـدود بالحواس والحـواس يحـدُّهـا الواقـع أن يـدرك الـلامحـدود، معرفة الله لا تـكون إلا من معرفة آثاره فقط أمَّا معرفة ذاته فمستحيلة، ومعرفة الذات كما لو وضعت ورقة رقيقة جداً في فرن لصهر الـحديد، وقلت: ماذا حل بها ؟ فالإنسان عاجز عن معرفة ذات الله, وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ: ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أحـاديثه:
((إذا ذُكر القضاء والقدر فأمسكوا ))
لا تبحثوا ً في ذات الله عـز وجل وبعلمه فهو يعـلم بلا كيف, وهذا اختصار للبحث فـي علـم الله الـذي لا يمكـن أن يدركه عقـل أي إن هنـاك أسئـلة خـطيرة فـي العـقيدة ينبغي أن نقف عندها ونقرأ: 


﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾

(سورة الإخلاص الآية: 1-4)

فهنـاك مـوضـوعـات مـن اختصـاص الـفكر البشـري، وهناك موضوعات فوق الفكر البشري يجب عدم الخوض فيها، وإذا عجز الفكر عن إدراكها فلا ينبغي أن ننكرها، لأنه كما قلنا: " عـدم الـوجدان لا يدل على عدم الوجود ".
والحمد لله رب العالمين

0 التعليقات:

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More